إن عظمة الأمم كانت ولا تزال تخضع إلى مقدار ما تدفعه وتجود به من تضحيات وبطولات زمن الحرب، وإلى مقدار رفعها التحدي والصمود في زمن السلم، ليكون بذلك وقود تقدّمها وازدهارها في ظل عالم سريع التحوّل. والجزائر في طليعة هذه الأمم العظيمة التي قدّم شعبها تضحيات جسيمة لتخليص الوطن من براثن الاستعمار، منذ أن دنّست أقدامه أرضنا الطاهرة، فقدّمت الجزائر المكافحة قوافل مُتعاقبة من الشهداء فداءً لتحرير الوطن.
إن الاستشهاد في سبيل تخليص الوطن من قبضة المحتل الغاشم غاية نبيلة لا يَسمو إلى تحقيقها إلا المُخلصون لله والوطن، الذين فضّلوا التضحية بالنفس والنفيس لينعم الوطن بالحرية، ومن هؤلاء شهداء الثورة التحريرية الجزائرية.
تعريف الشهيد:
قبل الخوض في تفاصيل معاني ورمزية اليوم الوطني للشهيد يجدر بنا أولا تحديد مفهوم " الشهيد" لغة واصطلاحاً، فقد جاء في قاموس "المنجد في اللغة العربية المعاصرة" معنى مصطلح الشهيد كالآتي:
" الشهيد من أسماء الله الحسنى – من قُتل في سبيل الله أو دفاعا عن بلد أو عقيدة أو مبدأ: شهيد الإيمان، شهيد الوطن، شهيد الحرية".
وتفسيرًا لتسمية "الشهيد" جاء في قاموس لسان العرب لابن منظور أن "الشهيد في الأصل، من قُتل مجاهدًا في سبيل الله..." وسُمي شهيدا لأنّ ملائكته شهود له بالجنة، وقيل: لأنّه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر".
فضل الشهداء على الأحياء:
مما لا يختلف فيه اثنان أن الشعب الجزائري خاض كفاحاً مريراً ضد استعمار استيطاني شَرِس، لأمد طويل يربو عن القرن وربع القرن (1830-1962) قاسى خلالها أبشع ألوان الظلم والهوان مالم تعرفه أُمم أخرى. وبالرغم من المقاومات والنضالات في أشكالها العديدة إلا أن النصر على المعتدي لم يتأت إلا بعد خوض الثورة المباركة ثورة أول نوفمبر 1954 التي امتدت على مدار 7 سنوات ونصف تحقّقت فيها الانتصارات تلو الانتصارات عسكريا وسياسيا، كما قابلها من جانب آخر قوافل تلو القوافل من شهداء أبرار نالوا شرف الشهادة في ساحات المعارك، في غيابات السجون والمعتقلات، تحت ضربات الطائرات وعبر الخطوط المكهربة وفي المظاهرات العامة فكان عددهم يربو عن مليون ونصف مليون شهيد خلّصت الشعب الجزائري من ربقة الاستعمار وحقّقت للوطن الحرية واستعادة السيادة الوطنية.
إنّ جيل نوفمبر الذي أوقد شرارة الثورة التحريرية المجيدة وتعهّدها بالرعاية حتى لا يخبو وهجها، لم يواجه الاستشهاد كقدر ينبغي الاحتياط لاجتنابه، بل أقدم على الاستشهاد كخيار مثله مثل الانتصار سواء بسواء، يتسابقون للفوز بالشهادة بإيمان صادق وعقيدة راسخة بأنّ التضحية من أجل الوطن هي واجب مقدّس.
وتقديرًا لهذه التضحية الخارقة التي قدّمها الشهداء لوطنهم وشعبهم وتبجيلا وتمجيدا لإيثارهم الفريد فإنّه من واجبنا أن ننحني أمام أرواحهم إجلالاً لهم وتعظيمًا لصنيعهم فالشهداء آثروا على أنفسهم وأهليهم فذهبوا تاركين زوجاتهم وأبناءهم وأحباءهم من أجل أن نعيش نحن -الأحياء- سعداء في وطن حرّ في ظل العزّة والشموخ.
حماية ذاكرة الشهيد:
سنّت الـــدولـــة الجزائرية قــــوانين وتنظـــيمات لحمايـــة ذاكــرة الشهيد ورعايــــة ذويــه، مــنها قانون الــمجاهد والشــهيد الـصادر في 5 أفريل 1999، تمجيدا للشهيد، باعتباره رمزا من رموز الثورة التحريرية في عدة مواد أهمها المادة02:
" تسهر الدولة على تمجيد الشهداء واحترام رموز ثورة التحرير الوطني ومآثرها ...." بالإضافة إلى مواد أخرى.
كما أقرّت الدولة الجزائرية يومًا وطنيا لشهيد ثورة التحرير الوطني يُحتفل به سنويا بموجب القانون رقم 91 -32 مؤرخ في 14 جمادى الثانية عام 1412هـ الموافق لـ 21 ديسمبر 1991، بالإضافة إلى إنجاز المعالم التذكارية المخلّدة لذاكرته وتسمية المؤسسات والشوارع بأسماء الشهداء اعترافا وتقديرا لتضحياتهم في سبيل الوطن.
دلالات اليوم الوطني للشهيد::
إنّ ذكرى الشهيد تستوقفنا عند الملحمة التاريخية التي صنعها أولئك الذين لفظوا أنفاسهم تحت التعذيب في المعتقلات ومراكز الاستنطاق والسجون والمحتشدات وأولئك الذين نالوا الشهادة في ساحات الوغى، وأولئك الذين نُفّذ فيهم حكم الإعدام جوراً بالمقصلة وبالرصاص وأولئك الذين راحوا ضحية الإبادات الجماعية وحقول الألغام والتفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية... وكثيرة هي مجالات الاستشهاد.
إن ذكرى الشهيد تستوقفنا لنتذكّر دومًا أولئك الذين اتخذوا شعار "فداء الجزائر روحي ومالي" وقوداً لهم وكان همّهم الوحيد هو تحرير الوطن فضحوا بالأنفس وقدموها رخيصة على مذبح الحرية دون التطلع إلى مكسب ذاتي أو مجد شخصي.
إن ذكرى الشهيد تستوقفنا لأخذ الدرس والعبرة لاستقراء معاني الصبر على المـِحن ومُكابدة الأهوال والاستماتة من أجل الحق بالنضال والكفاح لتحقيق الحياة الكريمة وصون الوطن.
ليتذكّر أبناء الجـــزائر كم هي غالية الجزائر وشهداؤها الذين طوّعوا حـركــة التاريـخ لينــساق وراء إرادتــهم فــفي هذا اليوم الرمز - اليوم الوطني للشهيد - يكون من أقدس واجباتنا تجديد الوفاء لرسالة الشهيد.
إن الوفاء لرسالة الشهيد ينبغي أن يَنْأى عن القراءة الشكلية أو الانفعالية، بل يتطلّب منا اعتماد مقاربة أساسها القراءة المتأنية الشاملة التي تستوعب الماضي والحاضر والمستقبل، فالشهيد إنجازه يمتدّ في أثاره في الزمن، حتى إن تحدثنا عنه بصيغة الماضي فسيظلّ على الدوام عنوانًا لإنجاز الحاضر والمستقبل.
شهداؤنا تسابقوا للفوز بالشهادة بإيمان صادق وعقيدة راسخة بأنّ الموت من أجل الوطن ما هو إلاّ واجب مقدس مقتنعين بأنّ الخلف الذي سيأتي من بعدهم لن يكتفي بالمحافظة على ذاكرتهم فحسب، بل سيثابر للدفاع عنها وفاءً لرسالتهم الخالدة
" إذا كُتبت لنا الشهادة فدافعوا عن ذاكرتنا"