الذكرى الـ 62 لليوم الوطني للهجرة 17 أكتوبر 1961-17 أكتوبر 2023

إن يوم الهجرة الذي يُصادف 17 أكتوبر من كل سنة هو حدث تاريخي يُحتفل به كل عام، تخليدًا لتضحيات جموع غفيرة من المهاجرين الجزائريين، بعد استجابتهم لتعليمات قياديي فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، الداعية لتنظيم مظاهرات سلمية ليلا بالرغم من الحظر المفروض آنذاك عليهم، من أجل الضغط على السلطات الفرنسية التي تمادت في تطبيق إجراءات قمعية ضد الجزائريين دون سواهم داخل باريس  وضواحيها.     

أسباب المظاهرات:

تعود الأسباب المباشرة  لهذه المظاهرات إلى ما شهدته العاصمة باريس، من أعمال قمع رهيبة ضد الجزائريين، تمثّلت خاصة في التفتيش المُباغت، والاعتقال التعسفي للجزائريين المشتبه فيهم طبقا لتعليمات "موريس بابون"MAURICE PAPON ، المعروف بعنصريته تجاه المُهاجرين الجزائريين وتضييقه الخناق على قياديي ومناضلي فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، حيث تمركز قسم كبير من قوات الأمن الفرنسية في الأماكن التي يتواجد بها الجزائريون وصبّت جام غضبها وانتقامها عليهم.

 وممـــا زاد الأمـــور تعـــقيدا، هـــو إصـــدار "موريس بابون" MAURICE PAPON بتاريخ 5 أكتوبر 1961، قرار حظر التجول على الجزائريين في باريس وضواحيها، ابتداءً من الساعة الثامنة والنصف ليلا إلى غاية الخامسة والنصف صباحا، وخلالها عاشت فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، فترة حرجة بسبب الرقابة المُشدّدة على مناضليها وتنقلاتهم، مما أعاق نشاطهم الثوري. ولم يكتف "موريس بابون" MAURICE PAPON بإصدار قرار حظر التجول بل فرض قيودا على كل المقاهي والمطاعم، التي يتردّد عليها الجزائريون وألزم أصحابها  بالإغلاق على الساعة السابعة مساءً.

التحضير للمسيرات السلمية:

بسبب القرارات التعسفية التي أصدرها محافظ شرطة باريس "موريس بابون" MAURICE PAPON  والتي تُجبر الجزائريين على ملازمة مساكنهم في التوقيت المذكور أعلاه،  قرّرت فيدرالية جبهة التحرير الوطني الردّ على تلك الممارسات القمعية بتنظيم مظاهرة سلمية حاشدة يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 1961، لوقف حظر التجول المفروض على الجزائريين. وبعد الاجتماعات التحضيرية، أُرسلت التقارير إلى كافة المسؤولين لإعلامهم بالأمر، وأُعطيت التعليمات الصارمة على أن تكون المظاهرات سلمية.  

لقد استطاعت فيدرالية جبهة التحرير الوطني في  فترة وجيزة تعبئة المهاجرين الجزائريين من أجل القيام بمظاهرات ضد سياسة "موريس بابون" MAURICE PAPON العنصرية،  والتعبير عن تحدي الجزائريين لفرنسا في عقر دارها،  وكانت العديد من الاتصالات قد تمّت بين مسؤولي التنظيم الثوري  بالمقاطعات الفرنسية من أجل التنسيق فيما بينهم،  لضمان  مشاركة أكبر للمهاجرين الجزائريين في هذه المظاهرة المقرّرة طيلة ثلاثة أيــــام كامــــلة، وقد خُطّــــط لها بــــدقة على أن تتم على مراحل زمنية ثلاثة:  يوم 17 أكتوبر 1961 هو خروج عام  للمتظاهرين الجزائريين من باريس وضواحيها، وفي اليوم الموالي هو الإضراب العام للتجار من أجل التصعيد، بينما خُصّص اليوم الثالث لخروج المرأة الجزائرية في مظاهرات أمام الإدارات والمحاكم والسجون، وأُعطيت تعليمات صارمة للمتظاهرين من أجل أن تكون المسيرات سلمية بحيث لا يُحمل خلالها أي سلاح مهما كان نوعه.

                حدّدت فيدرالية جبهة التحرير الوطني مواقع سير المظاهرات مثل ميدان "الأوبرا" OPERA بباريس والشوارع الكبرى وكذا الأحياء الكبيرة مثل الحي "اللاتيني" QUARTIER LATIN  ونهج " سان جرمان"  SAINT-GERMAIN ومنطقة سجن "الباستيل"BASTILLE  لرمزيته وهو تحرير المساجين. وكانت شعارات المظاهرة مُحدّدة في "الجزائر مستقلة" "تحيا الجزائر" و"الحكم لجبهة التحرير الوطني"، وفي حالة تدخّل الشرطة لتفريق المتـتــظاهرين يــكــون الــرد بترديد "حرّروا المساجــين" "حرّروا الجزائر".

 سير المظاهرات السلمية ورد الفعل الفرنسي:

في ليلة 17 أكتوبر 1961 المُصادف ليوم الثلاثاء وفي جو مُمطر خرج ما يقارب 30.000 متظاهر جزائري،  رجالا ونساءً وأطفالا، انطلاقا من الأحياء القصديرية المحيطة بباريس باتجاه  شوارع العاصمة الفرنسية في هدوء مردّدين شعار "لا للتمييز العنصري"، "نعم لرفع حظر التجول"، "تحيا جبهة التحرير الوطني" "الجزائر مستقلة"، وغيرها من الشعارات الوطنية.  كما رُفع العلم الجزائري في المسيرة السلمية على الرغم من أن تعليمات قيادة فيدرالية جبهة التحرير الوطني  لم تدْعُ لذلك صراحة، لكن الحماس كان أقوى من ذلك، إذ تّم حمله من طرف المناضل "بن عريبي الحبيب" الذي اغتيل في اليوم الثاني من المظاهرات.  

لقد وجدت السلطات الفرنسية ضالتها، في استغلال هذا الحدث السلمي، ضد المُهاجرين الجزائريين الذين اخترقوا قرار الحظر بشجاعة، لذا جابهت الشرطة الفرنسية المقدر عددها بـ 7000 عنصر وثلاث وحدات وحاميتين من الفرقة الجمهورية للأمن COMPAGNIES  REPUBLICAINES DE SECURITE   ، جموع المتظاهرين، بأعمال وحشية استخدمت خلالها أبشع وسائل القمع، من قنابل مسيلة للدموع والضرب بالهراوات  وبمؤخرات الأسلحة وإطلاق النار عشوائيًا دون تمييز، وتركت الكثير منهم في بِرك من الدماء من جرّاء الضرب بالعصي على الرؤوس، فأصبحت أزقة المدينة مليئة بجثث المتظاهرين،  وتمّ  رمي حوالي 450 جزائريا  فـــي نهر "الســين" LA SEINE بباريس مكبّلين اليدين والرجلين أمام مرأى "موريس بابون" MAURICE PAPON شخصيا.  

وحسب بعض الشهود ممن عايشوا الحدث فقد ظلّت جثث الجزائريين، تطفو على نهر "الســين" LA SEINE لعدة أيام مــن شهر أكتوبر، كما أٌعطيت الأوامر لدفن جمـــيع  القـتلى فــــي مقبرة "لاشاز"  LA CHAZE ، ناهيك عن آلاف الجرحى، وتبيّن لاحقا أن بعض جثث الجزائريين الذين  قُتلوا في هذا التاريخ، تمّ دفنها في بعض حدائق البيوت أيضا للتستّر على الجرائم المرتكبة ضد الجزائريين.

                ولم تتوقف جرائم السلطات الفرنسية عند هذا الحـــد، بل قامت قوات الفرقة الجـــمهورية للأمنCOMPAGNIES  REPUBLICAINES DE SECURITE   باعتقال 11.538 جزائري متظاهر، من بينهم حوالي عشرين طفلا، قبض عليهم مع أوليائهم، وتسابقت عناصرها لضربهم بالهراوات بمجرد نزولهم من سيارات الشرطة، واقتيد جميعهم  إلى ملعب "بيار دو كوبيرتان" PIERRE COUBERTIN  أين قضوا خمسة أيام تحت وطأة القهر والجوع والبرد.  كما تمّ إعدام الكثير من المعتقلين شنقًا في غابة "فانسان"LE BOIS DE VINCENNES ، زيادة على التعذيب والاستنطاق في مراكز الاعتقال لكل المُشتبه فيهم،  ووضعت الحواجز والمتاريس في الطرقات لمنع تدفّق ما تبقى من جموع المتظاهرين باتجاه المصالح الحكومية والإدارية.

لم تتوقف انتهاكات السلطات الفرنسية عند هذا الحد بل تواصلت بمُطاردة الطلبة الجزائريين المتواجدين بفرنسا، وأوقفت نشاطهم، وطردت العائلات الجزائرية خارج فرنسا، كما تم توقيف العديد من العمال عن العمل، في  ورشات البناء خاصة في باريس وضواحيها  ونقلهم إلى الجزائر كعقاب لهم،  ونفس المصير لقيه باقي المعتقلين  المُقدّر عددهم بـ 11.538 إذ نُقلوا إلى أرض الوطن  باتجاه المحتشدات.    ولم تستثن فرنسا من حملتها القمعية أصحاب المقاهي والفنادق، حيث جرّدتهم من ممتلكاتهم باعتبارها مقرات لتجمّع الجزائريين لدعم الثورة التحريرية.        

صدى المظاهرات إعلاميا:

بالرغم من فظاعة المشهد المُــروّع، الــــذي كانت شـــوارع باريس و نهر"السين" LA SEINE مسرحًا له، تكتّمت فرنسا عن جرائمها بالتعتيم الإعلامي، حيث تسترت على الوقائع والأحداث المأساوية  واكتفت بذكر عدد محدود للضحايا، مثلما أعلن عنه وزيـــر الداخلية الفرنســي  "روجي فري"  ROGER FREY في ردّه على أعضاء مجلس الشيوخ: "إن العدد الدقيق للفرنسيين المسلمين، الـذين قُتلـوا خـــلال مظـــاهرات 17 و 18 أكتوبر هو ستة، والعدد الدقيق للفرنسيين المسلمين الذين حُمِلوا إلى الجزائر بعد مظاهرات 19 و 20 أكتوبر هو 500. وهم إمّا احتُجزوا في معتقلات، أو على العكس أُرسلوا إلى دواويرهم الأصلية، أما الجرحى الذين أُدخلوا إلى المستشفيات فهو 136".  وأفادت احدى الصحف اليمينية « LE PARISIEN » ادعاء سقوط ضحيتين فقط في عملية تصفية حسابات بين مواطني بلدان شمال إفريقيا، بل واتهمت فيدرالية جبهة التحرير الوطني بالتطرف وأنها حاولت تطويق العاصمة الفرنسية باريس، من أجل عرقلة المفاوضات الفرنسية الجزائرية.    

وإزاء هذا التعتيم الإعلامي، نشرت وزارة الإعلام بالحكومة المؤقــتة للجمهوريـــة الجزائريـــة كُتـــيبًا موســـوما بـــ " مظـــاهرات 17 أكتوبر 1961 الجزائرية والقمع الاستعماري بفرنسا" وقد تمّ تحريره اعتمادًا على تقارير فيدرالية جبهة التحرير الوطني، الداخلية، وبعض المقتطفات من مقالات صحفية.  وفي 1 نوفمبر 1961، خصّت صحيفة المجاهد أحداث 17 أكتوبر، بمقال ورد فيه:" لقد ظهر وجه الشرطة وقوات القمع في أبشع صُورِه، خادما لنظام أصبح فيه القتل مُباحًا قانونًا وأمسى العنف والوحشية قاعدة ومنهاجًا [...] ومرة أخرى، تُشهِد تلك الأحداث المأساوية العالم أجمع على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الشعب الجزائري. ففي الوقت الذي بدأ فيه بصيص المفاوضات في البزوغ، ها هو الاستعمار يسعى لإطفائه ويقضي نهائيا على حظوظ نجاحه. والحكومة الفرنسية هي وحدها التي ستتحمّل وِزْر تلك الإجراءات والأفعال[...].

  ورغم تستّر السلطات الاستعمارية عن جرائمها خلال المظاهرات السلمية، التي خلّفت مقتل 200 جزائري حسب مصادر قريبة من معهد الطب الشرعي، وآلاف الجرحى وترحيل 1500  معتقل  من المتظاهرين، إلى الجزائر وإيداعهم الإقامة الجبرية بقُراهم أو مُدنهم الأصلية، واستمرت العملية  إلى غاية نهاية شهر ديسمبر، فإن مظاهرات 17 أكتوبر 1961 ساهمت في تعزيز النضال الوطني وأكّدت مدى تلاحم الشعب الجزائري مع ثورته داخليا وخارجيا، ونجاحه في فضح السياسة الاستعمارية بالجزائر وفرنسا أيضا، عن طريق وسائل الإعلام الدولية، كما أكسبت هذه الأحداث القضية الجزائرية أنصارًا كثيرين زاد في دعم الثورة سياسيًا وإعلاميًا وماديًا والدفاع عن المساجين وفضح ممارسات المستعمر الفرنسي، وهو ما ساهم بالتعجيل في مفاوضات إيفيانEVIAN  الثانية التي وضعت حلاً نهائيًا للقضية الجزائرية.