بعدما بلغت أزمة حركة الانتصار للحريات الديمقراطية أوجّها سنة 1953 بين المصاليين والمركزيين، وفشلت المساعي لتقريب وُجهات النظر بين الطرفين المُتنازعين وإنهاء الخلاف بينهما، بادرت مجموعة من المناضلين المتحمّسين لخيار الكفاح المسلّح، لاحتواء الأزمة بتأسيس"اللجنة الثورية للوحدة والعمل" في 23 مارس 1954 والإسراع لتعبئة المناضلين، والعمل على تحضير الكفاح المسلّح كخيار أمثل لاسترجاع السيادة الوطنية.
اجتماع مجموعة الـ 22
شرع أعضاء "اللجنة الثورية للوحدة والعمل" في الإعداد للثورة والتخطيط لها، ودعوا إلى عقد اجتماع لدراسة المستجدات واتخاذ موقف موحّد لإنقاذ المشروع الثوري، واتفق الجميع على دعوة باقي أعضاء المنظمة السرية، المُلاحقين من طرف الإدارة الفرنسية عبر أنحاء الوطن. انعقد هذا الاجتماع التاريخي بتاريخ 24 جوان 1954 بمنزل المناضل"إلياس دريش" بحي "المدنية" حاليا (CLOS SALEMBIER ) سابقا وحضره كل من :
ترأّس "مصطفى بن بولعيد" الاجتماع، بينما تولى "محمد بوضياف" إعداد التقرير العام وعَرضه على الحاضرين، وضمّنه مايلي :
وبعد قراءة التقرير، شرع الحاضرون في مناقشة القضايا المطروحة، وتبلور النقاش في موقفين:
واختُتم اجتماع الـ 22 باتخاذ القرارات التالي:
وتجسيدًا لقرارات مجموعة الـ 22، تمّ انتخاب "محمد بوضياف" مسؤولا وطنيا وتكليفه بمهمة تشكيل أمانة تنفيذية، تتولى قيادة الحركة الثورية وتطبيق القرارات المُتخذة في اللقاء.
وفي اليوم التالي للاجتماع، تشكّلت "لجنة الخمسة " المتكوّنة من "مصطفى بن بولعيد"، "مراد ديدوش"، "محمد العربي بن مهيدي"، "محمد بوضياف"، "رابح بيطاط"، والتي عقدت أول اجتماع لها في مدينة الجزائر بمنزل المناضل "عيسى كشيدة" بالقصبة. ومن القرارات الحاسمة التي توصّل إليها أعضاء اللجنة مايلي:
وبعد عدة اتصالات قام بها "ديدوش مراد"، انضمت منطقة القبائل مُمثّلة في شخص "كريم بلقاسم"، إلى اللجنة المُنبثقة عن اجتماع الـ22، فأصبحت تسمى "لجنة الستة". وبانضمام مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية بالقاهرة وهم: "محمد خيضر"، "حسين آيت أحمد" و "أحمد بن بلة" التي أسندت إليهم مهمة الدعاية للثورة في الخارج وتموينها بالسلاح والذخيرة، أصبحت اللجنة تسمى مجموعة التسعة الـ (9) التاريخية. قرّر قادة "لجنة الستة" في آخر اجتماع لهم بتاريخ 23 أكتوبر 1954 بـ "الرايس حميدو" (بوانت بيسكاد POINTE PESCADE سابقا) بالعاصمة، تجسيد الخطوات العملية لتفجير الثورة، أهمها:
اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954
اندلعت الثورة التحريرية ليلة أول نوفمبر 1954 ، بعد التحضير السري والتخطيط العسكري المُحكمين، بقيادة "جبهة التحرير الوطني" وجناحها العسكري "جيش التحرير الوطني"، حيث نُفّذت عدة عمليات فدائية بمختلف مناطق الوطن ، شارك فيها حوالي 1200 مُجاهد، بحوزتهم 400 قطعة سلاح وبضعة أسلحة بيضاء وقنابل تقليدية الصنع، أُستُهدفت بها مراكز الدرك والثكنات العسكرية ومخازن الأسلحة ومنشآت اقتصادية...
وبالرغم من محاولات السلطات الاستعمارية، التقليل من قيمة هذا الحدث الثوري، حيث حصرت عدد هجومات الثوار، في ثلاثين عملية، عبر الوطن فقط، إلا أن مجموع العمليات المسلّحة ضد المصالح الفرنسية، بلغت أزيد من ثمانين عملية حسب بحث مُدقّق أعدّه المجاهد "سالم بوبكر" أحد قادة هجومات الفاتح من نوفمبر1954 في خنشلة، خلّفت العشرات من القتلى والجرحى من الأوروبيين والعملاء، وخسائر مادية مُعتبرة، قُدّرت بالمئات من الملايين من الفرنكات الفرنسية.
بيان أول نوفمبر 1954 وأهداف الثورة الجزائرية
يُعتبر بيان أول نوفمبر 1954 الذي وجّهته الكتابة العامة لجبهة التحرير الوطني إلى الشعب الجزائري، أول وسيلة إعلامية حدّدت فيه قيادة الثورة الجزائرية مبادئها ووسائلها، ورسمت أهدافها المُتمثّلة في الاستقلال التام، السيادة الوطنية الحقيقية ووحدة التراب الوطني. كانت بداية تحرير بيان أول نوفمبر التاريخي، بمـــحل الخــياطــة بـ "سيدي رمضان" في أعالي القصبة، وهو مِلك للمناضل "عيسى كشيدة"، وبه كانت تُعقد لقاءات لمختلف قيادات الحركة الوطنية الجزائرية، ومنهم المناضل "محمد بوضياف" (سي الطيب) الذي تولى رسم الخطوط العريضة للبيان بمساعدة "ديدوش مراد" باسم "مجموعة الستة"، وانضم إليهما المناضل الصحفي "محمد العيشاوي" الذي ساعدهم في صياغة وثيقتين: "النداء إلى الشعب الجزائري" باسم جيش التحرير الوطني و"بيان أول نوفمبر 1954" باسم جبهة التحرير الوطني، مُستوحيا أفكارهما من وثائق حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. وبعد الانتهاء من كتابتهما، انعقد اجتماع "مجموعة الستة" ببيت المناضل "مراد بوقشورة"، لمراجعة نداء وبيان أول نوفمبر 1954، وبعد دراسة مُستفيضة لِفحواهما، تمت المُوافقة عليهما خلال جلستين متتاليتين، وأخذ كل واحد منهم نسختين قصد سحبهما كل في منطقته.
ولتبليغ فحوى النداء والبيان إلى كافة الشعب الجزائري أولا، ثم الرأي العام الفرنسي والدولي ثانيا، جهّزت قيادة الثورة مختلف وسائل الرقن والطباعة لتيسير العملية في سرية تامة، واختير مرة أخرى المناضل الصحفي "محمد العيشاوي" للقيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر في قرية "إيغيل إيمولا" بمنطقة القبائل ببيت المناضل "علي زعموم". وفي صبيحة يوم السبت 30 أكتوبر 1954، كانت آلاف النسخ من "نداء جيش التحرير الوطني" و"بيان أول نوفمبر" المُوجهة إلى الشعب الجزائري والشخصيات الجزائرية والأوروبية جاهزة للتوزيع، لتحسيس المواطنين على أوسع نطاق وكسب تأييدهم ودعمهم للقضية الوطنية، كما أُذيع بيان أول نوفمبر التاريخي، عبر أثير إذاعة "صوت العرب" من القاهرة على لسان الصحفي المصري "أحمد سعيد". أثار اندلاع الثورة التحريرية فزعًا واضطرابًا كبيرين في الأوساط السياسية والعسكرية الفرنسية، مثلما أفادت به وسائل الإعلام المكتوبة، التي أجمعت على ما وقع ليلة الاثنين بالزلزال. أما الحكومة الفرنسية فحاولت طمأنة المستوطنين والتقليل من أهمية الأحداث واعتبرتها مؤامرة خارجية، بهدف تجريد الثورة الجزائرية من بُعدها الوطني التحرري، وزعمت أنها لا تشكّل تهديدًا يُذكر على أمن الدولة الفرنسية واستقرارها الداخلي، بينما أجمعت ردود الفعل بإيعاز من المعمرين على ضرورة التصدي بحزم للثوار والقضاء عليهم. وإذا كانت السلطات الاستعمارية قد أُصيبت بصدمة عنيفة من فُجائية اندلاع الثورة التحريرية، فإن قادتها ومخطّطيها قد حرصوا من خلال قرارهم الشجاع، إحداث قطيعة مع الأساليب السابقة في النضال مع المستعمر، باعتماد الكفاح المسلّح، باعتباره وسيلة أنجع لاسترجاع الحقوق المسلوبة، والذي تمّ بتجنيد الشعب الجزائري وتعبئته في معركة التحرير وهذ تجسيدًا لمِا جاء في بيان أول نوفمبر في الفقرة الأخيرة منه: " أيها الجزائري إننا ندعوك لتُبارِكَ هذه الوثيقة. وواجبك أن تنْضَمّ إليها لإنقاذ بلادنا والعمل على أن نسترجع له حريته، إن جبهة التحرير الوطني هي جبهتك، وانتصارها هو انتصارك. أما نحن، العازمون على مواصلة الكفاح الواثقون من مشاعرك المُناهضة للامبرياليين، فإننا نُقدّم للوطن أَنْفَسْ مانمْلكُ".